ثقافة الكوتشينغ في شركة فيرجن Virgin


أسلوب قيادة السير ريتشارد برانسون (Sir Richard Branson)

عملت في سبعينيات القرن الماضي مع مجموعة فيرجن (Virgin) التي كانت ناشئةً آنذاك؛ حيث تعلَّمتُ مباشرةً - بصفتي مديراً تنفيذياً لبعض شركات فيرجن - أسلوب قيادة "ريتشارد برانسون" الذي نسميه الآن الكوتشينغ.

تميزت "فيرجن" بثقافة كوتشينغ حقيقية؛ حيث كانت تُقدِّر الموظفين بناءً على نقاط قوَّتهم بدلاً من انتقاد نقاط ضعفهم، ولم يمضِ وقت طويل قبل أن يتفوق فريقنا الصغير وعديم الخبرة بموارده المحدودة على المنافسين مثل إي إم آي (EMI) وآر سي إيه (RCA) في مبيعات الموسيقى، وبصفتي مديراً على مستوى مجلس الإدارة في شركات مماثلة، تساءلت لاحقاً عن سبب وضع فرقهم العقبات في طريق بعضهم بعضاً بدلاً من توحيد القوى للفوز معاً.

في السنوات الأولى، لم يكن لدى أي من أعضاء فريق "فيرجن" أي خبرة سابقة في مجال التسجيلات، بما فيهم "برانسون" نفسه، ولقد كان نهج "برانسون" في تعيين الموظفين هو عرض وظيفة على الأشخاص إذا أحب مظهرهم، وهو أسلوب يعتمد على الحدس وهو ما يميز جميع قراراته؛ وفي مقابلتي، سألني عن نوع الوظيفة التي أبحث عنها، فأجبته؛ أي شيء ما عدا السكرتارية التي كانت الوظيفة الوحيدة المتاحة للنساء في ذلك الوقت.

وبذلك، ما تعلَّمته من أول تعامل لي مع "فيرجن" هو ما نسميه الآن "نهج الكوتشينغ" الذي يعتمد على أسلوب قيادة "برانسون" المشهور الآن في جميع أنحاء العالم.

كانت خطوته الأولى هي ترك القرار لي، وطرح سؤال بدلاً من عرض الوظائف المتاحة علي، ونتيجة لذلك عُرِض علي منصب إدارة شركة فيرجن لتوزيع الموسيقى المُنشأة حديثاً، وكنت أعرف القليل عن ماهية شركات توزيع الموسيقى، أو ما تفعله (ولكنَّ برانسون أو أي شخص آخر في فيرجن كانوا كذلك أيضاً).

قضيت أول عامين لي في هذا المنصب وأنا أحاول التعلُّم، ولكن خلال السنة الثالثة، بدأت العمل ووقَّعت عقوداً مع عدة فنانين وفرق موسيقية، وفي غضون خمس سنوات، وبسبب العقود التي أبرمتها؛ انتقلت فيرجن ميوزيك (Virgin Music) إلى تصنيفات مجلة ميوزيك وييك (Music Week) من العدم إلى المراكز الثلاثة الأولى لتتنافس على الصدارة مع وارنر براذرز (Warner Brothers) وسي بي إس (CBS) وهي شركة سوني (Sony) الآن.

مرة أخرى، يوضِّح هذا أحد أنماط الكوتشينغ؛ إذ لم يكن هناك أحد يوجهني، وتُرِكتُ للتعلُّم بمفردي، فاكتشفت أساليبَ جديدة للقيام بالأشياء التي تناسب أسلوبي الخاص في الأداء، ونتيجة لذلك تجاوزت إنجازاتي أي مدير مماثل في مجال الموسيقى، وإذا نظرتُ الآن إلى الوراء بعد سنوات من الخبرة كمدير في شركات التسجيل، يمكنني أن أنسب نجاح هذه البيئة الخصبة إلى ثلاثة عوامل:

ركائز ثقافة الكوتشينغ

● المسؤولية

نظراً لأنَّه لم يكن لدى أي شخص خبرة سابقة في "فيرجن"، فقد اكتسبناها في أثناء تقدُّمنا، وكثيراً ما اخترعنا أساليبَ جديدة وأفضل لتنفيذ المهام، وقدَّر "برانسون" التفكير الابتكاري وشجَّع الناس على المجازفة. في الواقع كنت غالباً أجادله في عدم الاستثمار في عرض محفوف بالمخاطر أكثر من محاولة إقناعه بمحاولة خوض أحد هذه العروض.

على سبيل المثال، رفضت ذات مرة التعاقد مع فنان - كان برانسون حريصاً على التعاقد معه - لأنَّني لم أرَ أي إمكانات لديه، ولأنَّه طلب سلفة كبيرة جداً، حينها قال برانسون مازحاً إنَّه سيضع لافتة كبيرة على مكتبي تقول: "لقد رفضتي فلان"، لكنَّه لم يرغمني على عقد الصفقة؛ ببساطة لم يكن أسلوب قيادته يوماً يعتمد على إرغام أي موظف لديه، ولحسن حظي، بعد أن تعاقد الفنان مع منظمة منافسة وأخذ سلفة كبيرة، اختفى دون أن يترك أي أثر له.

كان هذا أسلوب قيادة "برانسون" النموذجي الذي يوضح كيف أنَّه لن يأمر موظفيه أبداً تحت أي ظرف من الظروف بما يجب عليهم القيام به، كان يعتقد أن أفضل شخص يتخذ قراراً بشأن جانب من جوانب العمل هو الشخص الموجود في الميدان؛ وذلك لأنَّه الشخص الذي يعرف عن الوضع الحالي للسوق، وظروف وسياق القرار الذي يجب اتخاذه أكثر من أي شخص آخر لديه خبرة سابقة في سياق مختلف، وفي وقت مختلف، وفي ظروف مختلفة.

جعلنا الحصول على مثل هذا المستوى العالي من المسؤولية حريصين للغاية على التحري والبحث وصقل قراراتنا، ولم يكن هناك من يراقب الأخطاء أو يقترح أسلوباً آخر؛ فالقرار يعود لنا، وهذا هو مفتاح الوثوق بالناس لتحمُّل المسؤولية؛ فكلما زادت سيطرة المديرين على موظفيهم والتدقيق في كل ما يقومون به، قلَّ الجهد الذي يبذلونه؛ فلماذا يكلفون أنفسهم عناء بذل الجهد ليأتي شخص آخر ويرفض قراراتهم.

يقول "برانسون": "إليك الأخبار السَّارة: بقدر ما تمنح موظفيك حرية التفكير لوحدهم، تزداد قدرتهم على مساعدتك؛ إذ ليس عليك القيام بكل شيء بمفردك".

● الثقة بالنفس

لا يثق الأفراد عادةً في قدراتهم في وظائفهم الأولى، وأنا لم أكن استثناءً، ومع ذلك كنت مسلحاً بالتفاؤل والاعتقاد الذي غرسه والداي في شخصيتي بأنَّ كل شيء ممكن إذا بذل المرء ما يكفي من الجد، وفي "فيرجن"، عزَّز "برانسون" هذا الاعتقاد لدي؛ فقد وَرِث الأفكار نفسها من والدته، مما جعله يؤمن بأنَّ الفريق يمكنه تحقيق أي شيء أيضاً، وهذا عنصر أساسي في أسلوب قيادته.

تمتلك العديد من المؤسسات ثقافة الحذر، ليس بدون مبرر؛ إذ يبذل الأفراد قصارى جهدهم لحماية مصالح المنظمة، ولكنَّ النتيجة هي أنَّه عندما يعرض شخص ما فكرة جديدة، يميل المدير إلى رفضها قائلاً: لقد جربنا شيئاً مشابهاً منذ 5 سنوات ولم ينجح، لذلك لن ينجح الآن، أو هذا لن يحدث أبداً، فلن تستطيع إقناعهم بذلك، أو قد يحدث خطأ ما، أو قد يحدث هذا أو ذاك، وما إلى ذلك.

لم تظهر أي من تلك السلبية في ثقافة "فيرجن"؛ فقد كان "برانسون" يُحبِّذ الأفكار الجديدة غير المُجرَّبة، وكلما كانت أكثر خطورة، زاد إعجابه بها، لذلك ستلقى أي خطة جديدة الترحيب بإظهار الحماس والإعجاب والاعتقاد الذي لا يتزعزع بأنَّ كل شخص يطرح فكرة معينة، سوف يجعلها تنجح.

لقد منحنا موقفه الثقة والحافز الذي دفعنا نحو النجاح، فإذا كان "برانسون" يعتقد أنَّنا قادرون على تحقيق شيء ما، فبالتأكيد يمكننا ذلك بسبب ثقته بنا؛ فكلما ازدادت ثقتك بالناس، ازدادت ثقتهم بأنفسهم.

لذا فإنَّ الثناء والتقدير هما جانبان أساسيان آخران من جوانب أسلوب قيادة "برانسون" وحيويان في بناء الثقة بالنفس، لكن هناك جانب هام آخر أيضاً وهو: يجب على الناس بناء ثقتهم بأنفسهم من خلال ممارسة واختبار مهاراتهم، ولكنَّهم سيفشلون في بعض الأحيان؛ لذا فإنَّ الطريق الآخر للثقة بالنفس هو:

● عدم إلقاء اللوم على الآخرين

بالطبع كانت هناك أوقات فشلت فيها مخططاتنا الكبرى؛ فقد كنا نفتقر إلى الخبرة، ويمكن أن تسوء الأمور حتى عندما يكون لدى الناس الكثير من الخبرة، فإذا نظرنا إلى الوراء، الآن بعد أن اكتسبت خبرة أكبر في ثقافة كبش الفداء المنتشرة في المملكة المتحدة على وجه الخصوص، من الغريب ألَّا يكون "برانسون" الملجأ الأول حينما يخفق أمرٌ ما في "فيرجن"، كانت هذه هي القيادة الحقيقية الداعمة؛ إذ لم يخطر ببالي أبداً إخفاء الأخطاء.

في معظم المؤسسات، يبذل الموظفون ما في وسعهم لإخفاء أخطائهم، ويمكن للفِرق بأكملها أن تضع كل طاقتها الإبداعية على مدى فترة طويلة من الزمن للتستر على الخطأ، بينما يكون الحل سهلاً، ولكن قد يستلزم إبلاغ المدير.

لم يحدث هذا في ثقافة الكوتشينغ في "فيرجن"؛ حيث كان موقف "برانسون" كما لو كان يقف في بداية متاهة، وهدفه في نهايتها؛ فكان كل أثر زائف نكتشفه في تلك المتاهة يُقرِّبنا خطوة واحدة من الهدف، كتب "برانسون": "لدينا فلسفة تقوم على التشجيع في مؤسستنا؛ فقلَّما ننتقد موظفينا، فإن ارتكب أحدهم خطأً كبيراً، فعادةً لن نحتاج إلى إخباره، كونه يعرف خطأه".

كما يقول برانسون، عندما يعلم الناس أنَّهم ارتكبوا خطأً ما، فلا داعي لإخبارهم بذلك لأنَّهم أشد منتقد لأنفسهم، ونادراً ما تعادل قسوة الرئيس قسوتنا على أنفسنا، فكم مرة ابتعدت عن حدث ناجح أعاد عرض الأجزاء التي حدثت بشكل خاطئ فقط، مهما كانت غير ذات أهمية؟ إذا كنا على دراية بأخطائنا، فمن المفيد إخبارنا بما نقوم به بشكل جيد أكثر من التركيز على الإخفاقات؛ فالثناء يزيد الطاقة ويعزز الثقة ويُحفِّز على القيام بعمل أفضل في المرة القادمة.

ذات مرة، درَّبت امرأة كانت تضع لنفسها قائمة مهام شاقة في كل جلسة، ربما 25 مهمة يجب إنجازها في غضون أسبوع، وكانت النتيجة أنَّها لم تُنجز كل ما في القائمة فحسب؛ بل كانت تتجاوز ما تسعى إلى تحقيقه، وقالت في أحد الأسابيع إنَّها فشلت في إكمال مهمتين، لقد اندهشتُ عندما سمعتها تقول: "هذا هو طبعي؛ لا أُنجز أي شيء أبداً"؛ فشرحت لها الاختلاف بين رؤيتها لنفسها والواقع الذي لاحظته؛ فتفاجأت بذلك وأصبحت تُقيِّم نفسها بموضوعية منذ ذلك الحين.

إذا عوقب الناس بسبب الفشل؛ فسوف يتخذون الإجراءات التي نجحوا فيها من قبل فقط، وسيتوقَّف النمو، ولن تقدر المنظمات على مواكبة التطورات السريعة، وينطبق هذا أيضاً خارج العمل.

تخيَّل معاقبة طفل يتعلَّم المشي في كل مرة يسقط فيها؛ فكم من الوقت سيستغرق الطفل حتى يستسلم تماماً؟ ضع في حسبانك الإمكانات التي ستُفقَد سواء بالنسبة إلى الطفل أم إلى العالم من حوله، ثم أسقط ذلك على مكان العمل وتخيل الإمكانات التي تضيع كل يوم من خلال ثقافة اللوم التي تسود الكثير من أماكن العمل.

صاغ اختصاصي علم النفس في مجال الأعمال كين بلانشارد (Ken Blanchard) العبارة:

"راقب الناس وهم يفعلون شيئاً صحيحاً"

رغم أنَّ هذا الاقتباس لا يعود إلى "برانسون"، إلا أنَّه يُلخِّص أسلوب قيادته تماماً.

استمرارية الصراع

ثقافات الكوتشينغ ليست بأي حال من الأحوال مناطق خالية من الصراع، وكان هناك قدر كبير من الصراع يحدث يومياً في "فيرجن"؛ فقد كانت الاجتماعات في كثير من الأحيان أحداثاً حماسية وغاضبة وعاطفية، وقد أسفرت عن نتائج رائعة بسرعة، ومن خلال هذه التجربة، يمكنني إضافة تصنيفين إضافيين إلى النماذج الحالية، وهما ببساطة "صراع صحي" و "صراع غير صحي".

  • يتطلب الصراع الصحي جواً من الثقة؛ حيث يستطيع الموظفون التعبير عن آرائهم بأمان، والجدال، وحتى الصراخ في بعض الأحيان، ولكن يحتاجون إلى معرفة أنَّ تطلعاتهم المهنية لن تتضرر بسبب الاختلاف مع رئيسهم، أو ارتكاب خطأ عرضي، وأنَّهم لن يتعرضوا للتخويف أو الإذلال، وأنَّ رأيهم سيؤخذ في الحسبان وسيُدعمون في حال قرروا المجازفة، فيبني هذا النوع من الأجواء علاقات قوية ومستدامة.
  • الصراع غير الصحي هو ما يحدث في جو من الخوف ويتميز بالنزاعات التي تسبب ضرراً دائماً لنسيج العلاقات.

أمثلة عن ثقافات الكوتشينغ

وارن بافيت (Warren Buffet): هو أحد أغنى رجال العالم ، بنى "بافيت" إمبراطوريته عن طريق شراء أجزاء من منظمات الآخرين، ووفقاً للمقابلات التي أُجريت مع مالكي المؤسسات التي استحوذ عليها، تبين أنَّ أسلوبه في القيادة يتلخص في ترك المديرين يديرون أعمالهم بمفردهم شريطة أن يكونوا متاحين عند الاتصال بهم.

في ثقافة الكوتشينغ، ليست هناك حاجة لمراقبة الموظفين؛ وذلك لأنَّهم سيأتون إلى المدير عندما يحتاجون إليه، فقط تخيل كم من الوقت سيوفره المدير الذي يشعر بالحاجة إلى الإشراف والإدارة الدقيقة للموظفين من خلال الاجتماعات والتقارير.

ريكاردو سيملر (Ricardo Semler): في الثمانينيات، وَرِث "سيملر" شركة سيمكو (Semco) الصناعية العالمية عن والده، لقد شعر أنَّه يجب أن تكون هناك طريقة لإدارة العمل أفضل من إخبار عماله بما يجب عليهم القيام به، واحتراماً لموهبتهم وذكائهم الفطري، أوكل إليهم قيادة المنظمة، وفي النهاية جعل الموظفين يُحدِّدون رواتبهم بأنفسهم، لم يكن هناك كتب كوتشينغ أو دورات ليتبعها "سملر"؛ فكان عليه التعلُّم في أثناء تقدُّمه، وعلى الرغم من أنَّه واجه بعض العثرات، إلا أنَّ النظام الجديد ازدهر.

أندي لو (Andy Law): أسس شركة إس تي ليوكس أدفيرتايزينج (St Luke's Advertising)، وسلَّم المنظمة بأكملها إلى موظفيها، وصولاً إلى ملكية الأسهم.

رالف ستاير (Ralph Stayer): في عام 1980، بدأ عملية تجريبية صعبة ولكنَّها مجزية لتمكين عماله من قيادة منظمته "جونسون فايل ساوسج" (Johnsonville Sausage).

من بين الأسئلة الأكثر شيوعاً التي تطرحها المنظمات عليَّ هو من أين نبدأ من حيث إنشاء ثقافة الكوتشينغ وما هي المزالق التي قد يواجهونها مستقبلاً، لا تظن أنَّني أقترح على أي شخص أن يغير ثقافة عمله بين عشية وضحاها؛ حيث كان معظم القادة المذكورين أعلاه مالكين مُطلقين لشركاتهم، ووظفوا شخصياً القوى العاملة بأكملها في السنوات الأولى وكان كل منهم مسؤولاً بمفرده عن المخاطر المالية، وهذا مكون رئيس في أسلوب قيادة "برانسون"، لقد كان مساراً مبتكراً وغير مطروق، ووصِف بأنَّه محفوف بالمخاطر في ذلك الوقت.

هناك مشكلة أخرى وهي أنَّه في الشركة غالباً ما يكون هناك تسلسل هرمي يدعو للقلق؛ حيث يتوقع المديرون تحمُّل اللوم عن أخطاء مرؤوسيهم، على أي حال، قد يؤدي احترام الركائز الثلاث لثقافة الكوتشينغ إلى تحسن تدريجي في ثقافة أي منظمة، ويقلل من التوتر ويخلق شعوراً بالسعادة بين العمال، مما يؤدي إلى زيادة أرباح المساهمين.

ومن أقوال "برانسون": "إذا اعتنينا بموظفينا عناية أفضل، فسوف يعتنون بعملائنا عناية أفضل، وسوف يستفيد المساهمون على الأمد الطويل".