أهمية فترة الاستراحة لمتخصصي التعلم والتطوير


مع عودة وتيرة العمل في الشركات إلى نظيرتها في فترة ما قبل الجائحة، يجد معظم متخصصي التعلُّم والتطوير أنَّ هذه الوتيرة سريعة وتتغير باستمرار، ولا يمكن التنبؤ بها في معظم الأحيان.

بعد عامين من ورش العمل الافتراضية والاجتماعات عبر الإنترنت التي أُجرِيَت في المنازل، أصبح متخصصو التعلُّم والتطوير الآن يقضون أياماً في المكتب والتدريب في الموقع والجلسات الافتراضية، ويعقدون مزيداً من ورش العمل الشخصية التي تتطلب السفر، كما أصبحت بعض الكلمات مثل رسوم تغيير مواعيد رحلات الطيران والإرهاق بسبب السفر وطعام المطار جزءاً من مفردات التعلُّم والتطوير.

يعمل متخصصو التعلُّم في عالم من الكلمات، ونحن نعلم أنَّه من الهام اختيار الكلمة المثلى لإنجاز المهمَّة، وعندما نستخدم بعض الكلمات مثل وقت الفراغ والترفيه والاستراحة، فإنَّ هذه الكلمات قد تكون مترادفة في المعنى، بينما لكل منها معنى ضمني مختلف إلى حد كبير، ولها قيمة مميزة بالنسبة إلينا.

وقت الفراغ:

ظهرت كلمة وقت الفراغ لأول مرة في القرن الرابع عشر؛ وتعني الوقت المتاح والتحرُّر من الالتزامات الضرورية، أو القيام بأمر ما دون عجلة أو تباطؤ، ويرى معظم المهنيين أنَّ وقت الفراغ هو الوقت المتبقي بعد الاهتمام بالأولويات، أو بعد الانتهاء من العمل، أو عندما يكون وقتنا خالياً من المشاغل.

ترى المعنى الأعمق لوقت الفراغ في أصل الكلمة الفرنسي واللاتيني؛ إذ يعني أساس الكلمة "السماح"، فإنَّ الهدف الأصلي من وقت الفراغ هو الوقت الذي نتيحه لأنفسنا أو نمنحه لأنفسنا.

تُخصَّص أوقات الفراغ بصورة هادفة ومدروسة وعقلانية، ووقت الفراغ ليس شيئاً نحصل عليه كمكافأة على ما أنجزناه؛ وإنَّما نمنحه لأنفسنا كاستثمار نحو ما نريد تحقيقه؛ إذ إنَّ وقت الفراغ يجعلنا ندرك دائماً وجود أولويات متنافسة تفوق رغبة أذهاننا أو أجسادنا في الراحة، ومن خلال الاندماج في أوقات الفراغ، نختار تجاهُل القوة التي تجذبنا إلى مزيد من النشاط والسماح لأنفسنا بالتوقُّف والاندماج في أنشطة أخرى.

الترفيه:

نستخدم كلمة الترفيه بثقة ظناً منَّا أنَّها مصونة من العبث؛ لذا لا نهتم بالحفاظ عليها، وعندما نعلم أنَّها تعني في الأصل "الإبداع مجدداً والتجديد"، فإنَّنا نبتسم بثقة، ونخبر أنفسنا أنَّ هذا هو ما يعنيه الاستجمام فعلاً؛ لذلك لا خوف من اندثار هذه الكلمة، لكن ندرك خطورة الأمر عندما ننظر إلى ما نفعله باسم الترفيه.

تضمَّن المعنى الأصلي للترفيه الشفاء من المرض والتنشيط والتعافي، ويؤدي متخصصو التعلُّم المشغولين عملهم بين الفصول التدريبية والمطارات والعملاء؛ وعندما يريدون الترفيه عن أنفسهم ينتهي بهم الأمر في حال أسوأ.

قد يكون الجلوس أمام التلفاز وتناول الطعام أمراً ممتعاً، ولكنَّه أبعد ما يكون عن الترفيه، ولقد أسأنا فهم الترفيه حتى أصبحنا نستمتع بتصفُّح صور المنتجعات الفخمة في الإنترنت أكثر من الاستجمام في منتجع على أرض الواقع.

فترة الاستراحة:

يُخطِئ الناس حين يظنون أنَّ تناول العشاء مع الأصدقاء أو زيارة المتحف أو قراءة الكتب أو مشاهدة التلفاز هي طرائق جيدة لقضاء وقت الاستراحة؛ ففي الواقع لا تساهم هذه الأنشطة في عيش نمط حياة مفيد.

تعود أصول كلمة فترة الاستراحة إلى قطاع الصناعة، في إشارة إلى الفترات المخطط لها والمدروسة التي يتوقف خلالها نظام الكمبيوتر أو الآلة أو خط التجميع عن العمل؛ إذ إنَّ عدم إراحة هذه الآلات مكلف للغاية، وهذا ينطبق على البشر؛ إذ تتكلَّف الشركات التي لا تمنح فترات استراحة مدروسة للموظفين بما يقدَّر بنحو 50 مليار دولار سنوياً، وعندما لا تُعطى فترة استراحة مقدماً للآلة؛ فإنَّها ستأخذ فترة الاستراحة هذه في لحظة غير مناسبة وبتكلفة عالية.

إنَّ عقولنا أكثر تعقيداً وتطوراً بكثير من أيَّة آلة، وتتطلب فترات مدروسة ومخطط لها من عدم النشاط للعمل بكفاءَة عالية، وتُشير الأبحاث الحديثة إلى أنَّ الدماغ البشري له نظامان هامان يعملان معاً، ولكنَّهما مختلفان.

شبكات الدماغ:

تنشط شبكة المهام الإيجابية (Task Positive Network) في أثناء ممارسة الأنشطة التي تتطلب الانتباه، ويتضمن هذا النظام الانتباه الواعي إلى البيئة الخارجية واستخدام الحواس وإدراك الحالة الداخلية وتنفيذ النشاط العقلي والبدني.

عندما نكون في العمل، نتعامل مع عدد لا يُحصى من المسؤوليات، ونشارك في التفكير النقدي وصنع القرار، وننفذ أحدث خطة لتطوير المواهب لدينا؛ وهذا يعني أنَّ شبكة المهام الإيجابية تعمل بكامل طاقتها؛ ممَّا يمنحنا المهارات المعرفية التي نحتاج إليها لهذه الوظائف التنفيذية.

تنشط شبكة الوضع الافتراضي (Default Mode Network) عندما يتجه تركيزنا إلى الداخل بدلاً من العالم أو الظروف الخارجية، وترتبط شبكة الوضع الافتراضي بإطار عملنا الأخلاقي وذكرياتنا وإبداعنا وطريقة تحديد إحساسنا بأنفسنا، وتصبح مناطق الدماغ المرتبطة بشبكة الوضع الافتراضي أكثر نشاطاً عندما نكون في حالة يقظة، ولكنَّنا لا نركز في المعلومات أو نعالجها عندما نتأمل أو نحلم أحلام اليقظة أو نتخيَّل المستقبل أو نسترجع الذكريات السعيدة.

لا تُعَدُّ متابعة آخر الأخبار على فيسبوك (Facebook) أو إنستغرام (Instagram) بين اجتماعات العمل عبر الإنترنت فترة استراحة، كما أنَّ ثلاث ساعات من ممارسة ألعاب الفيديو في أثناء تأخُّر رحلة سفر ليست فترة استراحة، ونشر فيديو على برنامج تيك توك (TikTok) ليس فترة استراحة؛ إذ تتطلَّب جميع هذه الأنشطة الانتباه، وفي حين أنَّها قد تكون طرائق لملء وقت الفراغ، إلَّا أنَّها ليست فترة استراحة.

تشبه فترة الاستراحة الفعلية الصيانة الاستباقية في المصنع؛ إذ يمكن أن يؤدي الاختيار المتعمد لتنشيط الذاكرة والتفكير الإبداعي وأحلام اليقظة الهادفة إلى تقديم مساهمة كبيرة في فعاليتنا عندما نركز مرةً أخرى شبكة المهام الإيجابية في المسؤوليات المعرفية الصعبة، ونظراً إلى أنَّ المتخصصين في التعلُّم مكلَّفون باستمرار بتوفير مناهج إبداعية ومبتكرة للتعلُّم، فإنَّ فترة الاستراحة الفعلية هي أمر هام لفعاليتنا.

في الختام:

لكي تعمل أجسامنا بكامل طاقتها وقدرتها؛ تحتاج إلى ما يوفره لنا الترفيه ووقت الفراغ، وللاندماج بكامل كفاءَتنا وقوتنا الذهنية تحتاج عقولنا إلى تحوُّل مدروس من النشاطات التي تتطلَّب الانتباه إلى النشاطات الذهنية التي تُنعِش أنظمتنا العاطفية، وبصفتنا متخصصين في مجال التعلُّم والتطوير، يؤكد هذا التحول أنَّه عندما نساعد الأشخاص على تحديد التغييرات السلوكية الهامة وممارستها، فإنَّنا نتصرف بثقة بأنَّ الجسم والعقل يعملان بتعاون كامل.