هل نستثمر بما يكفي في أماكن تقديم الكوتشينغ؟
غالباً ما يكون اختيار مكان تقديم الكوتشينغ مرتبطاً بالخدمات اللوجستية والتكاليف والشعور بالراحة، ولكنَّ سيكولوجية المكان لها تأثير هام في كل من الكوتش والعميل.
أين يُقدَّم معظم الكوتشينغ؟ هل يُقدَّم في مكتب العميل، أم في غرفة الاجتماعات، أم في مقهى أم في صالة أحد الفنادق؟ ما المعايير التي نفكر فيها عند اختيار أماكن تقديم الكوتشينغ الخاصة بنا بخلاف الملاءمة الجغرافية وتقليل التكاليف على العميل؟
يبدو أنَّنا لا نستثمر في اختيار المكان المناسب للكوتشينغ، وأنَّ مجتمع الكوتشينغ لا يرى وجود حاجة إلى استكشاف هذه المشكلة بعمق أكبر؛ وذلك بسبب النقص الواضح في الكتابات أو المناقشات التي تتطرَّق إلى هذا الموضوع.
هل يعتقد الكوتشز والمهنيون في مجال التعلم والتطوير الذين يقدمون الكوتشينغ أنَّ الأماكن التي نقدمه فيها ليس لها أي تأثير في جودة التجربة لكلا الطرفين؟
الشعور بالمكان:
الكوتشينغ هو مهنة جامعة؛ إذ نستعير المعلومات الجديدة والجذَّابة والمميزة من التخصصات الأخرى ونعدلها لتناسب احتياجاتنا، مثل علم النفس الغشتالتي، والديناميكية النفسية (psychodynamics)، والبرمجة اللغوية العصبية (NLP)، والعلاج السلوكي المعرفي (CBT) على سبيل المثال لا الحصر.
لكن يبدو أنَّنا غفلنا عن مجال هام في علم النفس؛ وهو علم النفس البيئي الذي كان يستكشف تأثير البيئات في النفس البشرية لمدة خمسة عقود، وما أظهره لنا هو أنَّ "المكان هام حقاً".
نحن ندرك جميعاً محيطنا المحلي بطرائق مختلفة بناءً على تجارب حياتنا السابقة وخياراتنا المفضلة الحسية، ولهذا الأمر تأثير مباشر في المعالجة العاطفية والمعرفية التي تترتب على ذلك، ومن ثم في سلوكاتنا.
يمتلك الناس حباً فطرياً لأماكن معينة، أو ما يسمى توبوفيليا (topophilia)؛ وهو مصطلح صِيغَ في أوائل السبعينيات واكتُشِفَ أكثر من خلال نظرية التعلُّق بالمكان (PA)، وتشرح هذه النظرية لماذا تُعَدُّ أماكن معيَّنة هامَّة بالنسبة إلينا "سواء كانت الأهمية سلبية أم إيجابية"، وقد تلبي هذه الأماكن الاحتياجات المادية؛ ممَّا يعطي إحساساً بالأمن والأمان، وقد توفر الشروط اللازمة لتحقيق الأهداف الشخصية، أو تشجِّعنا على الاستمرارية وتمثِّلنا، أو تمنحنا أحساساً بالانتماء.
إنَّ إنشاء مساحة آمنة وتحديد الأهداف الشخصية واستكشاف القيم الشخصية قد يبدو أمراً مألوفاً؛ لذا فكِّر في أماكنك المفضلة وما الذي تحصل عليه من الوجود فيها، وكيف تؤثر في تفكيرك وعواطفك وسلوكاتك؟
يأخذ نموذج الشخص العقلاني الذي وصفه الأستاذان في علم النفس ستيفن وراشيل كابلان (Steven and Rachel Kaplan) نظرية التعلُّق بالمكان خطوة إلى الأمام؛ وذلك من خلال اقتراح أنَّ الناس أكثر منطقية وتعاوناً ورضى عندما تدعم بيئتهم حاجاتهم الأساسية من المعلومات، ويبدو هذا نقطة انطلاقٍ رائعة عند محاولة تهيئة الظروف المناسبة لجلسة كوتشينغ.
هل نحن حاضرون ذهنياً بحق؟
من المهارات الأساسية للكوتشينغ الفعَّال أن تكون قادراً على تركيز انتباهك وتكون حاضراً ذهنياً بصورة كاملة وفي اللحظة مع العميل، ويُنظَر إلى ممارسة "اليقظة الذهنية" على أنَّها علاج لتقليل "الحوار الداخلي" للكوتش حتى يتمكن من التركيز، ومع ذلك يصعِّب الكوتشز على أنفسهم في كثيرٍ من الأحيان إتقان مهمَّة صعبة أساساً؛ وذلك من خلال التعرُّض إلى عوامل غير مفيدة تشتت انتباههم مصدرها الأماكن التي يختارونها.
تُظهِر العديد من دراسات علم الأعصاب أنَّنا لا نملك نفس القدر من التحكم بمستويات تركيزنا كما نعتقد؛ إذ يمكن للمشتتات أو "المعلومات الحسية الجديدة" أن تشتت بسهولة انتباه الكوتش المُركَّز. فكِّر في ألوان معيَّنة تنجذب إليها، وكيف يلفت انتباهك صوت بكاء طفل، أو كيف ينبهك سماع اسمك المذكور بين حشد من الناس، حتى لو لم يتحدثوا عنك.
تصف نظرية الحِمل الإدراكي كيف تدير أدمغتنا حجماً هائلاً محتملاً من المعلومات وتحقق التوازن في العملية للسماح لنا بأن نكون على علم بما نحتاج إليه أو نريد أن نكون على دراية به، في حين أنَّنا نتحكم إلى حدٍّ كبير بمعالجة المعلومات في الأجزاء المعرفية والعاطفية من الدماغ، إلَّا أنَّنا أقل قدرة بكثير على القيام بذلك مع المناطق الحسية الأساسية؛ لذلك في البيئات ذات الأصوات المحددة والمرتفعة، والحركات المفاجئة، والومضات الساطعة أو التي تنعدم فيها الراحة البدنية - وكلها تحفز المناطق الحسية الأساسية في الدماغ - تقلُّ قدرة العميل والكوتش على الاستمرار في التركيز.
أين يمكن أن نقدم الكوتشينغ؟
يجب أن يستكشف الكوتشز دور البيئة بمزيد من التفاصيل مع عملائهم في بداية العلاقة كجزء من مرحلة التعاقد، ومساعدتهم على فهم الأماكن التي يفضلونها ومن ثم إيجاد الوقت والمال للاستثمار في الأماكن الأكثر إلهاماً وإبداعاً والتي تسمح بإطلاق العنان للعقل، ومن ثم إنشاء لقاء كوتشينغ أكثر تأثيراً.
هل يجب أن يكون الكوتشز أكثر إصراراً على انفصال العميل جسدياً عن البيئة التي يعمل فيها؟ ربما يعني ذلك أنَّه في إمكانه أن يبتعد عن مشكلة العمل التي يحاول حلها غالباً.
دعونا نخرج إلى الهواء الطلق ونبتعد عن بيئة الأبنية ونرى ما يحققه الكوتشينغ. توجد العديد من الدراسات التي تستكشف دور الطبيعة في صحتنا النفسية، وقد أظهرت فرضية البيوفيليا (Biophilia)، ونظرية استعادة الانتباه كيف تؤثر الطبيعة التي تلبي خيارات الفرد المفضلة تأثيراً إيجابياً كبيراً في كل من الحالة الجسدية والعاطفية؛ لذلك دعونا نبدأ بتجاوز الحدود البيئية للكوتشينغ لنرى كيف يمكن أن يوسِّع الحدود النفسية.